فصل: فصل في كسوة أهل النار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في كسوة أهل النار:

وأما كسوة أَهْل النار فقَدْ ذكر جَلَّ وَعَلا ثيابهم، فَقَالَ: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ}، وَقَالَ تَعَالَى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ}.
وفي كتاب أبي داود، والنسائي، والترمذي عن بريدة أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى على رجل خاتمًا من حديد، فَقَالَ: «ما لي أرى عَلَيْكَ حلية أَهْل النار»، وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أول من يكسى حلة من النار إبلَيْسَ، يضعها على حاجبه، ويسحبها من خلفه ذريته خلفه، وَهُوَ يَقُولُ: يا ثبوره. وهم ينادون: يا ثبورهم. حتى يقفوا على النار، فَيَقُولُ: يا ثبوره ويقولون: يا ثبورهم، فَيُقَالُ: {لَا تَدْعُوا اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً}» خرجه الإمام أَحَمَد.
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري، عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة، وعَلَيْهَا سربال من قطران، ودرع من جرب». وفي مسند الإمام أَحَمَد عن حبيب بن المغفل عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ما تحت الكعبين من الإزار في النار» قَالَ الْعُلَمَاءُ: إن المراد ما تحت الكعب من البدن والثوب معًا، وأنه يسحب ثوبه في النار كما كَانَ يسحبه في الدُّنْيَا خيلاء. وخَرَجَ أبو داود وغيره من حديث المستورد عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أكل برجل مسلم أكلة في الدُّنْيَا أطعمه الله مثلها في جهنم، ومن كسي أو اكتسى برجل مسلم ثوبًا كساه الله مثله في جهنم».
وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} فطعامهم نار وشرابهم نار. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ}، ولباسهم نار، ومهادهم نار، قال تَعَالَى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} فهم بين مقطعات النيران، وسرابيل القطران وضرب المقامَعَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّما أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن مقمعًا من حديد وضع في الارض فاجتمَعَ له الثقلان ما أقلوه من الأَرْض» وعن أبي سعيد الخدري قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لو ضرب الجبل بمقمَعَ من حديد لتفت ثُمَّ عاد كما كَانَ».
وَقَالَ ابن عباس في قوله تَعَالَى: {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قال يضربون بها، فيقع كُلّ عضو على حياله، فيدعون بالثبور.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} الغساق ما سال من جلود أَهْل النار من القيح والصديد، وَقَالَ القرطبي هُوَ عصارة أَهْل النار. وَقَالَ السدي: هُوَ الَّذِي يسيل من دموع أَهْل النار يسقونه من الحميم، وقوله: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أي عذاب آخر، أو مذوق آخر، أو نوع آخر من شكل الْعَذَاب.
ومعنى: {أَزْوَاجٌ} أجناس، وأنواع، وأشباه، ونظائر. وقيل: هُوَ الزمهرير، وقوله: {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} الآيَة أي الأتباع داخلون معكم بشدة، والاقتحام: الالقاء في الشَيْء بشدة، فَإِنَّهُمْ يضربون بمقامَعَ من حديد، حتى يقتحموها بأنفسهم خوفًا من تلك المقامَعَ، فأخبر جَلَّ وَعَلا عن قيل أَهْل النار، بَعْضهمْ لبعض كما قال تَعَالَى في الآيَة الأخرى: {كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}.
فبدل السَّلام يتلاعنون، ويتكاذبون، ويكفر بَعْضهمْ ببعض، فَتَقُول الطائفة الأولى دخولاً للتي بعدها: لا مرحبًا بِهُمْ. أي: لا اتسعت منازلهم في النار، والرحب والسعة. والمعنى: لا كرامة لَهُمْ، وهَذَا إخبار من الله جَلَّ وَعَلا بانقطاع الْمَوَدَّة بينهم وأن مودتهم في الدُّنْيَا تصير عداوة، كما قال في الآيَة الأخرى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}.
فتأمل حال أولئك التعساء الَّذِينَ كَانَ بَعْضهمْ يملي لبعض في الضلال، كيف تناكروا، وتلاعنوا في جهنم، وأصبحوا يتقلبون في أنواع الْعَذَاب، ويعانون في جهنم ما لا تطيقه الجبال وما يفتت ذكره الأكباد، يقتحمون إلى جهنم إقتحامًا.
ويتجلجلون في مضائقها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها، ويطوفون بينها وبين حميم آن، ولا تسأل عما يعانونه من ثقل السلال والأغلال، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}، وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
وَقَالَ: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} فهذه ثلاثة أنواع، أحدها: الأغلال، وهي في الأعناق، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ، وَقَالَ معمر عن قتادة في قوله تَعَالَى: {مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} قال: مقرنين في القيود والأغلال.
وروى ابْن أَبِي حَاتِم بإسناده عن مُوَسى بن أبي عَائِشَة أنه قَرَأَ قوله تَعَالَى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال: تشتد أيديهم بالأغلال في النار، فيستقبلون الْعَذَاب بوجوههم قَدْ شدت أيديهم، فلا يقدرون على أن يتقوا بها كُلّ ما جَاءَ نوع من الْعَذَاب، يستقبلون بوجوههم وبإسناده عن فيض بن إسحاق عن فضيل بن عياض: إذا قال الرب تبارك وتَعَالَى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} تبدره سبعون ألف ملك، كلهم يتبدر أيهم يجعل الغل في عنقه، النوع الثاني: الأنكال. وهي القيود. قاله ابن عباس، وعكرمة، ومُحَمَّد ابن كعب، وطاووس، وأبو عمران الجوني وغيرهم.
وَقَالَ أبو عمران الجوني القيود لا تحل وَاللهِ أبدًا. وروى أبو سنان عن الحسن: أما وعزته ما قيدهم مخافة أن يعجزوه، ولكن قيدهم لترسى في النار. اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك، وأرشدنا برشدك إلى السعي فيما يرضيك، وأجرنا يا مولانَا من خزيك وعذابك، وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبابك، وآتنا في الدُّنْيَا حسنة، وفي الآخِرَة حسنة، وقنا عذاب النار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
لَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَهْلَ الشَّقَا ** فِي النَّارِ قَدْ غُلُّوا وَقَدْ طُوِّقُوا

تَقُولُ أَوْلاهُمْ لأُخْرَاهُمُ ** فِي لُجَحِ الْمُهْلِ وَقَدْ أُغْرِقُوا

وَقَدْ كُنْتُمُ حُذِّرْتُمْ حَرَّهَا ** لَكِنْ مِنْ النِّيرَانِ لَمْ تَفْرَقُوا

وَجِيءَ بِالنِّيرَانِ مَزْمُومَةً ** شَرَارُهَا مِنْ حَوْلِهَا مُحْدِقُ

وَقِيلَ لِلنِّيرَانِ أَنْ أَحْرِقِي ** وَقِيلَ لِلْخُزَّانِ أَنْ أَطْبِقُوا

وَأَوْلِيَاءُ اللهِ فِي جَنَّةٍ ** قَدْ تُوِّجُوا فِيهَا وَقَدْ مُنْطِقُوا

تَدَبَّرُوا كَمْ بَيْنَهُمْ إِخْوَتِي ** ثُمَّ أَجِيلُوا فِكْرَكُمْ وَانْتَقُوا

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ *
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} قال مُحَمَّد بن كعب القرظي في قوله تَعَالَى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} تأكله النار إلى فؤاده فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه.
وعن ثابت البناني أنه قَرَأَ هذه الآيَة ثُمَّ قال: تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء، لَقَدْ بلغ مِنْهُمْ الْعَذَاب ثُمَّ يبكي.
وَقَالَ العوفي عن ابن عباس في قول الله تَعَالَى:
{فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} أدخلهم في عمد ممدة عَلَيْهمْ بعماد في أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب.
اللَّهُمَّ اقبل توبتنا واغسل حوبتنا وأجب دعوتنا وثَبِّتْ حجتنا واهد قلوبنا وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قولبنا وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.فصل في وصف سلاسل أهل النار:

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} قال ابن عباس: تسلك في دبره حتى تخَرَجَ من منخريه حتى لا يقوم على رجليه. وَقَالَ ابن جريج: قال ابن عباس: السلسة تدخل في استه، ثُمَّ تخَرَجَ من فيه، ثُمَّ ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود، حين يشوى. خرجه ابْن أَبِي حَاتِم.
وَقَالَ جويبر في قول الله تَعَالَى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} قال: يجمَعَ بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره.
وَقَالَ السدي- في هذه الآيَة: يجمَعَ بين ناصية الكافر وقدميه، فتربط ناصيته بقدمه وظهره، ويفتل. وذكر الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: يؤخذ بناصيته وقدميه ويكسر ظهره كما يكسر الحطب في التنور. وبئس المصير.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} عن أبي عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته». خرجه الإمام أَحَمَد، والترمذي، والحاكم وقالا: صحيح. وَقَالَ: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال عطاء: يرمى به في النار منكوسًا فأول شَيْء منه تمسه النار وجهه.
وقَدْ أجرى الله العادة أن الإِنْسَان يبقى وجهه بيديه وجسمه فأما هنا فهو لا يملك أن يدفع عن نَفْسهُ النار بيديه ولا برجليه فيدفعها بوجهه، ويتقي به سوء الْعَذَاب، مِمَّا يدل على شدة الهول والاضطراب فمجرد تصوره يزعج ويقلق ويفزع.
وفي زحمة هَذَا الْعَذَاب يتلقى التوبيخ، والتأنيب، وتدفع إليه حصيلة حَيَاتهُ، ويا لها من حصيلة، {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وفي الآيَة الأخرى قال: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان ووفقنا لمحبتك ومحبة من يحبك وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قَدْ أمْسَتِ الطَّيْرُ وَالأَنْعَامُ آمِنَةً ** وَالنُّونُ فِي الْبَحْرِ لَمْ يُخْبَأَ لَهَا فَزَعُ

وَالآدَمِيُّ بِهَذَا الْكَسْبِ مُرْتَهَنٌ ** لَهُ رَقِيبٌ عَلَى الأَسْرَارِ يُطَّلِعُ

إِذْ النَّبِيُّونَ وَالأَشْهَادُ قَائِمَةٌ ** وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ وَالأَمْلاكُ قَدْ خَشَعُوا

وَطَارَتِ الصُّحْفُ فِي الأَيْدِي مُنَشَّرةً ** فِيهَا السَّرَائِرُ وَالأَخْبَارُ تُطَّلَعُ

فَكَيْفَ سَهْوُكَ وَالأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ ** عَمَّا قَلِيلٍ وَلا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ

أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزِ لا انْقِطَاعَ لَهُ ** أَم الْجَحِيمِ فَلا تُبْقِي وَلا تَذَرُ

تَهْوِي بِسَاكِنَهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُمْ ** إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا

طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَنْفَعْ تَضَرُّعُهُمْ ** هَيْهَاتَ لا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلا جَزَعُ

لِينْفَع الْعِلْمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عَالِمَهُ ** قَدْ سَالَ قَوْمٌ بِهَا الرُّجْعَى فَمَا رَجَعُوا

اللَّهُمَّ أتمم عَلَيْنَا نعمتك الوافية وارزقنا الإِخْلاص في أعمالنا والصدق في أقوالنا، وعد عَلَيْنَا بإصلاح قلوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة:
عباد الله إن بين أيديكم يوم لا شك فيه ولا مراء، يقع فيه الفراق، وتنفصم فيه العرى، فتدبروا أمركم قبل أن تحضروا، وانظروا لأنفسكم نظر من قَدْ فهم ودرى، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً}، يا له من يوم يشيب فيه الولدان، وتسير فيه الجبال، وتظهر فيه الخفايا، وتنطق فيه الأعضاء، شاهدة بالأعمال، فانتبه يا من قَدْ وهي شبابه، وامتلأ بالأوزار كتابه، عباد الله أما بلغكم أن النار للكفار والعصاة أعدت، إنها لتحرق كُلّ ما يلقى فيها، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}، وَقَالَ: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} عباد الله أما بلغكم أن طعام أهلها الزقوم، وشرابها الحميم، قال عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأَرْض لأمرت على أَهْل الدُّنْيَا معيشتهم» فَكَيْفَ بمن هُوَ طعامه، لا طعام له غيره، قال تَعَالَى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}.
أخرَجَ الطبراني، وابْن أَبِي حَاتِم من طَرِيق منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منية رفع الْحَدِيث إلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ينشئ الله لأَهْل النار سحابة سوداء مظلمة، فَيُقَالُ: يا أَهْل النار أي شَيْء تطلبون؟ فيذكرون بها سحابة الدُّنْيَا، فيقولون: يا ربنا الشراب، فتمطر أغلالً تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرًا يلتهب عَلَيْهمْ».
مَثِّلْ وُقُوفَكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ ** يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ

مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ ** فَرْدًا وَجَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيرُ

مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ ** فَرْدًا ذَلِيلاً وَالْحِسَابُ عَسِيرُ

وَتَعَلَّقَتْ فِيكَ الْخُصُومُ وَأَنْتَ فِي ** يَوْمِ الْحِسَابِ مُسَلْسَلٌ مَجْرُورُ

وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الْجُنُودُ وَأَنْتَ فِي ** ضِيقِ الْقُبُورِ مُوَسَّدٌ مَقْبُورُ

وَوَدِدْتَ أَنَّكَ مَا وَلِيتَ وَلايَةً ** يَوْمًا وَلا قَالَ الأَنَامُ أَمِيرُ

وَبَقِيتَ بَعْدَ الْعِزِّ رَهْنَ حَفِيرَةٍ ** فِي عَالَمِ الْمَوْتَى وَأَنْتَ حَقِيرُ

وَحُشِرْتَ عَرْيَانًا حَزِينًا بَاكِيًا ** قَلِقًا وَمَا لَكَ فِي الأَنَامِ مُجِيرُ

أَرَضِيتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبَكَ دَارِسٌ ** عَافِي الْخَرَابَ وَجِسْمُكَ الْمَعْمُورُ

أَرَضِيتَ أَنْ يُحْظَى سِوَاكَ بِقُرْبِهِ ** أَبَدًا وَأَنْتَ مُعَذَّبٌ مَهْجُورُ

مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا ** يَوْمَ الْمِعَادِ وَيَوْمَ تَبْدُو الْعُورُ

اللَّهُمَّ اغفر لنا ذنوبنا قبل أن تشهد عَلَيْنَا الجوارح ونبهنا من رقدات الغفلات فأَنْتَ الحليم المسامح، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك، ووفقنا للعمل بما يرضيك، وارزقنا محبتك ومحبة من يحبك وبغض من يعاديك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.فصل في ذكر أبواب جهنم:

تفكر عافنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين، وأدم الفكر في جهنم، واعْلَمْ أن لها سبعة أبواب كما أخبر جَلَّ وَعَلا، قال عز من قائل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ}. وخرج الإمام أَحَمَد، والترمذي من حديث ابن عمر عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن لجهنم سبعة أبواب، باب منها لمن سل سيفه على أمتي».
وفي حديث أبي رزين العقيلي عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعمر: «إن للنار سبعة أبواب، ما منهن بابان إِلا ويسر الراكب بينهما سبعين عامًا». خرجه عَبْد اللهِ بن الإمام أَحَمَد، وابن أبي عاصم، والطبراني، والحاكم وغيرهم.
وخَرَجَ ابْن أَبِي حَاتِم من طَرِيق حطان الرقاشي قال: سمعت عليًا يَقُولُ: هل تدرون كيف أبواب جهنم، قلنا: هِيَ مثل أبوابنا هذه، قال: لا، هِيَ هكَذَا بعضها فوق بعض. وفي رواية له: بعضها أسفل بعض.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} فتأمل حال هؤلاء الأشقياء الكفار كيف يساقون سوقًا عنيفًا إلى جهنم، بزجر وتوبيخ، وتقريع وتهديد، ووعيد كما قال عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} أي يدفعون إليها دفعًا، هَذَا وهم عطاش ظماء جياع نصبون وجلون قَدْ بلغ مِنْهُمْ الخوف والرعب كُلّ مبلغ. قال تَعَالَى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} وهم في تلك الحال صم وبكم وعمي مِنْهُمْ من يمشي على وجهه، قال تَعَالَى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}.
وروى مخلد بن الحسن عن هشام بن حسان قال: خرجنا حجَّاجًا فنزلنا منزلاً في بعض الطَرِيق، فقَرَأَ رجل معنا هذه الآيَة: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} فسمعته امرأةٌ ف قَالَتْ: أعد رَحِمَكَ اللهُ. فأعادها ف قَالَتْ: خلفت في البيت سبعة أعبد، أشهدكم أنهم أحرار، لكل باب واحد مِنْهُمْ. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا.
يَا غَافِلاً عَنْ مَنَايَا سَاقَهَا الْقَدَرُ ** مَا ذَا الَّذِي بَعْدَ شَيْبِ الرَّأْسُ تَنْتَظِرُ

عَايِنْ بِقَلْبِكَ إِنَّ الْعَيْنَ غَافِلَةٌ ** عَنِ الْحَقِيقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهَا سَقَرُ

سَوْدَاءُ تَزْفُرُ مِنْ غَيْظٍ إِذا سُعِرَتْ ** لِلظَّالِمِينَ فَمَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ

لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ غَيْرَ الْمَوْتِ مَوْعِظةٌ ** لَكَانَ فِيهِ عَنِ اللَّذَّاتِ مُزْدَجَرُ

آخر:
اسْلُكْ بُنَيَّ مَنَاهِجَ السَّادَاتِ ** وَتَخَلَّقَنَ بِأَشْرَفِ العَادَاتِ

لا تُلهِيَنَّكَ عَن مَعادِكَ لَذَّةٌ ** تَفْنَى وَتُوَرِثُ دَائِمَ الْحَسَراتِ

وَإِذا اتَّسَعتَ بِرِزْقِ رَبِّكَ فَاِجْعَلَنْ ** مِنْهُ الأَجَلَّ لأَوْجُهِ الصَّدَقَاتِ

وَارْعَ الْجِوارِ لأَهْلِهِ مُتَبَرِّعًا ** بِقَضَاءِ مَا طَلَبُوا مِنَ الْحَاجَات

قال الضحاك في قول الله تَعَالَى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} هِيَ سبعة أدراك بعضها فوق بعض فأعلاها: فيه أَهْل التَّوْحِيد يعذبون عَلَى قَدْرِ ذنوبهم ثُمَّ يخرجون، والثاني: فيه النَّصَارَى، والثالث: فيه اليهود، والرابع: الصابئون، والخامس: فيه المجوس، والسادس: فيه مشركوا الْعَرَب، والسابع: فيه المنافقون.
وعن ابن جريج في قوله تَعَالَى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ}، قال: أولها جهنم، ثُمَّ لظى، ثُمَّ الحطمة، ثُمَّ السعير، ثُمَّ سقر، ثُمَّ الجحيم، وفيها أبو جهل، ثُمَّ الهاوية. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا وغيره. وقَدْ وصف الله الأبواب بأنها مغلقة عَلَيْهمْ، فَقَالَ: {إِنَّهَا عَلَيْهمْ مُّؤْصَدَةٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ}، قال مقاتل: يعني: أبوابها مطبقة عَلَيْهمْ، فلا يفتح لها باب، ولا يخَرَجَ منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.
وهَذَا الإطباق نوعان: أحدهما خاص لمن يدخل في النار أو من يريد الله التضييق عَلَيْهِ، أجارنا الله والمسلمين من ذَلِكَ، قال أبو توبة اليزني: إن في النار أقوامًا مؤصدة عَلَيْهمْ كما يطبق الحق على طبقه. خرجه ابْن أَبِي حَاتِم.
والثاني الإطباق العام وَهُوَ إطباق النار على أهلها المخلدين فيها. وقَدْ قال سفيان وغيره في قول الله تَعَالَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قَالُوا: هُوَ طبق النار على أهلها.
وَقَالَ أبو الزعراء عن ابن مسعود: وإذا قيل لَهُمْ: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} أطبقت عَلَيْهمْ، فلا يخَرَجَ مِنْهُمْ أحد.
وَقَالَ أبو عمران الجوني: إذا كَانَ يوم القيامة أمر الله بكل جبار عنيد، وكل شيطان مريد، وبكل من يخاف من شره العبيد، فأوثقوا بالحديد، ثُمَّ أمر بِهُمْ إلى جهنم التي لا تبيد، ثُمَّ أوصدها عَلَيْهمْ ملائكة رب العبيد، قال: فلا وَاللهِ لا تستقر أقدامهم على قرارٍ أبدًا، ولا وَاللهِ لا ينظرون فيها إلى أديم سماءٍ أبدًا، ولا وَاللهِ لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدًا، ولا وَاللهِ لا يذوقون فيها بارد ولا شراب أبدًا.
وقَدْ أخبر سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن الكفار يحاولون الْخُرُوج ويرغمون على البقاء فيها.
قال تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}، وَقَالَ تَعَالَى: {كُلَّما أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} الآيَة. فلا يزالون يريدون الْخُرُوج مِمَّا هم فيه من الشدة وأليم مس الْعَذَاب ولا سبيل لَهُمْ إلى ذَلِكَ، كُلَّما رفعهم اللهب فصاروا في أعلا جهنم ضربتهم الزبانية بمقامَعَ الحديد فيردونهم إلى أسفلها.
وأخبر جَلَّ وَعَلا أنهم يطلبون منه الْخُرُوج منها فَقَالَ مخبرًا عما قَالُوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}. والجواب على ذَلِكَ يَقُولُ الرب جَلَّ وَعَلا: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}.
أمانيهم فيها الهلاك وما لَهُمْ من النار فكاك قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ}، وَقَالَ: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} الآيَة. وَقَالَ: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى}.
وَقَالَ: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}، وَقَالَ: {لَا يُقْضَى عَلَيْهمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا}، وَقَالَ: {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي}، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً}، وَقَالَ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}، وَقَالَ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}.
ومن السنة ما خرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت كل خالد بما هو فيه».
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الْجَنَّة والنار ويذبح ويُقَالُ: يا أَهْل الْجَنَّة خلود فلا موت، ويا أَهْل النار خلود فلا موت». رواه البخاري.
وما أخرجه الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو قيل لأَهْل النار: إنكم ماكثون في النار عدد كُلّ حصاة في الدُّنْيَا لفرحوا، ولو قيل لأَهْل الْجَنَّة: إنكم ماكثون في الْجَنَّة عدد كُلّ حصاة لحزنوا ولكن جعل لَهُمْ الأبد». هَذَا مِمَّا يدل على عدم فناء النار وبقاء أهلها فيها ينقلبون في أنواع الْعَذَاب لا راحة ولا نوم، ولا هدوء ولا قرار لَهُمْ، بل من عذاب إلى آخر، ولكل واحد مِنْهُمْ حد معلوم عَلَى قَدْرِ عصيانه وذنبه، إِلا أن أقلهم لو عرضت عَلَيْهِ الدُّنْيَا بحذافيرها لافتدى بها من شدة ما هُوَ فيه، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أدنى أَهْل النار عذابًا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه» من حرارة نعله فَانْظُرْ الآن إلى من خفف عَلَيْهِ، واعتبر بمن شدد عَلَيْهِ الْعَذَاب ممن يسحبون على وجوههم في النار، ويُقَالُ لَهُمْ: ذوقوا مس سقر، وَقَالَ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ}. أي: تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم، ثُمَّ تبدل غير ذَلِكَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} قال قتادة: قال ابن عباس: {صَعُوداً} صخرة في جهنم يسحب عَلَيْهَا الكافر على وجهه. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
موعظة:
عباد الله عليكم بتقوى الله، فإن تقواه عروة مالها انفصام وقدوة يأتم بها الكرام، وسراج يضيء للأفهام، من تعلق بها حمته بإذن الله محذور العاقبة، ومن تحقق بحملها وقته بإذن الله شرور كُلّ نائبة، والحذر من دار فرقة مالها أسلاف، وقرار حرقة مالها انصراف، وأماني رجعة مالها إسعاف، فانهضوا عباد الله في استعمال ما يقربكم من دار القرار، واتركوا كُلّ ما يدنيكم من دار البوار، فإنها المصيبة الجامعة والعقوبة الواقعة، يا لها دار انقطع من الرجَاءَ انحلالها، وامتنع من الفناء بقاء نكالها، وشعار أهلها الويل الطويل، ودثارهم البُكَاء والعويل، وسرابيل الخزي الوبيل، ومقيلهم الهاوية وبئس المقيل، يقطع مِنْهُمْ الحميم أمعاء طالما ولعت بأكل الحرام، وتضعضع مِنْهُمْ الجحيم أعضاء طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام قَدْ كثر مِنْهُمْ الأنين، وحلت بِهُمْ المثلات، فجلودهم كُلَّما نضجت بدلت جلودًا غيرها، وكرر عَلَيْهمْ الْعَذَاب، ووجوههم مسودة لسوء الحساب، والزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب، ينادون إلهًا ضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه ونسوه، وحق عَلَيْهمْ في الآجلة حكمه لما أغضبوه يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}، {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيجيبهم بعد حين إجابة دعوى ذي قوة متين: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فحينئذٍ ينقطع عندها وَاللهِ تأميل المذنبين، ويجتمَعَ التنكيل على المذنبين، ويرتفع في جهنم عويل المجرمين المعذبين {فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} فيا لها من حَسْرَة ويا لها من ندامة لا تشبهها ندامة ويا لها من خسارة لا تعادلها خسارة: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}. اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدُّنْيَا والهوى، ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تَغْفِرِ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
إِنْ كُنْتَ تَطْمَعُ فِي الْحَيَاةِ فَهَاتِ ** كَمْ مِنْ أَبٍ لَكَ صَارَ فِي الأَمْوَاتِ

مَا أَقْرَبَ الشَّيْءَ الْجَدِيدَ مِنَ الْبِلَى ** يَوْمًا وَأَسْرَعَ كُلَّ مَا هُوَ آتِ

اللَّيْلُ يَعْمَلُ وَالنَّهَارَ وَنَحْنُ عَمَّـ ** ـمَا يَعْمَلانِ بِأَغْفَلِ الْغَفِلاتِ

يَا ذَا الَّذي اتَّخَذَ الزَّمَانَ مَطِيَّةً ** وَخُطَا الزَّمَانِ كَثِيرَةُ الْعَثَراتِ

مَاذَا تَقُولُ وَلَيْسَ عِنْدَكَ حُجَّةٌ ** لَوْ قَدْ أَتَاكَ مُنَغِّصُ اللَّذَاتِ

أَوْ مَا تَقُولُ إِذَا حَلَلْتَ مَحَلَّةً ** لَيْسَ الثِّقَاتُ لأَهْلِهَا بِثِقَاتِ

أَوْ مَا تَقُولُ وَلَيْسَ حُكْمُكَ نَافِذًا ** فِيمَا تُخَلِّفُهُ مِن التَّرِكَاتِ

مَا مِنْ أَحَبَّ رِضَاكَ عَنْكَ بِخَارِجٍ ** مَا مِنْ أَحَبَّ رِضَاكَ عَنْكَ بِخَارِجٍ

زُرْتُ الْقُبُورَ قُبُورَ أَهْلِ الْمُلْكِ فِي الدُّ ** نْيَا وَأَهْلِ الرَّتْعِ فِي الشَّهَوَاتِ

كَانُوا مُلُوكَ مَآكِلٍ وَمَشَارِبٍ ** وَمَلابِسٍ وَرَوَائِحٍ عَطِرَات

فَإِذَا بِأَجْسَادٍ عَرِينَ مِن الْكِسَا ** وِبِأَوْجُهٍ فِي التُّرْبِ مُنْعَفِرَاتِ

لَمْ تُبْقِ مِنْهَا الأَرْضُ غَيْرَ جَمَاجِمٍ ** بِيضٍ تَلُوحُ وَأَعْظُمٍ نَخَرَاتِ

إِنَّ الْمَقَابِرَ مَا عَلِمْتُ لَمَنْظِرٌ ** يَهْدِي الشَّجَا وَيُهَيِّجُ الْعَبَرَاتِ

سُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِقُدْرَةٍ ** بَارِي السُّكُونِ وَنَاشِرِ الْحَرَكَات

اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال أمرك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
اللَّهُمَّ نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأمن خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.